كم لغة يستطيع الإنسان تعلمها؟
يعد تعلم اللغات من أهم القدرات التي يمكن أن يمتلكها الإنسان. منذ العصور القديمة، كان التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة يعتمد بشكل رئيسي على إتقان اللغات، سواء كان ذلك في التجارة أو في العلوم أو حتى في الحياة اليومية. في الوقت الحاضر، أصبح تعلم لغات جديدة أحد الأهداف الشخصية التي يسعى الكثيرون لتحقيقها، سواء لأسباب مهنية أو اجتماعية أو ثقافية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كم لغة يمكن للإنسان تعلمها؟
الفروقات الفردية في تعلم اللغات
قبل الخوض في الإجابة عن هذا السؤال، من المهم أن نفهم أن القدرة على تعلم اللغات تختلف من شخص لآخر، إذ توجد العديد من العوامل التي تؤثر على قدرة الإنسان في تعلم اللغات الجديدة. من بين هذه العوامل:
-
العمر: يُعد العمر من أبرز العوامل المؤثرة في تعلم اللغات. الأشخاص الذين يتعلمون لغة ثانية في مرحلة الطفولة عادةً ما يكونون قادرين على إتقان اللغة بشكل أفضل من أولئك الذين يتعلمونها في مرحلة البلوغ. لكن هذا لا يعني أن البالغين لا يستطيعون تعلم لغات جديدة؛ بل إنهم قادرون على تعلم عدة لغات إذا توافرت الإرادة والفرص المناسبة.
-
الذكاء والقدرة العقلية: تظهر بعض الدراسات أن الأشخاص الذين يمتلكون قدرة عالية على معالجة المعلومات والذاكرة القوية يكونون أكثر قدرة على تعلم لغات جديدة. بعض الأبحاث تشير إلى أن الذكاء اللغوي هو عامل أساسي في النجاح في تعلم اللغات.
-
البيئة المحيطة: البيئة تلعب دورًا كبيرًا في تعلم اللغات. العيش في بلد يتحدث لغتين أو أكثر قد يسهل عملية تعلم اللغة الثانية بشكل أسرع. التفاعل اليومي مع الأشخاص الذين يتحدثون هذه اللغة يساعد على تعزيز تعلمها وتطوير مهارات النطق والفهم.
-
التحفيز والإرادة: التحفيز الشخصي والرغبة في تعلم لغة معينة يمكن أن تكون عاملًا حاسمًا في تعلمها. الأفراد الذين يشعرون بالاهتمام أو الإعجاب بلغة معينة عادة ما يتفوقون في تعلمها مقارنة بالآخرين الذين لا يهتمون بها.
عدد اللغات التي يمكن تعلمها
من الناحية النظرية، ليس هناك حد ثابت لعدد اللغات التي يمكن للإنسان تعلمها. يمكن للإنسان تعلم عدد كبير من اللغات، ولكن ذلك يتطلب جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلًا. تعتمد القدرة على تعلم اللغات على التفاعل بين العوامل النفسية والفسيولوجية والبيئية. العديد من الأشخاص حول العالم يستطيعون تعلم خمس إلى ست لغات بطلاقة، بل يوجد بعض الأشخاص الذين يتقنون أكثر من عشر لغات.
على سبيل المثال، قد نرى في بعض المجتمعات اللغوية التي تتحدث العديد من اللغات المحلية أن الأشخاص يتقنون أكثر من لغة واحدة بشكل طبيعي. هذا يحدث بسبب البيئة اللغوية المتعددة التي يتعرضون لها منذ الصغر. في المقابل، يوجد أشخاص مثل المؤرخين والفلاسفة والمترجمين الذين يخصصون حياتهم لتعلم اللغات القديمة أو الحديثة.
الفرق بين تعلم لغة “أساسية” ولغة “ثانوية”
عندما نتحدث عن عدد اللغات التي يمكن تعلمها، يجب أن نميز بين اللغات “الأساسية” (التي تُستخدم بشكل يومي في حياة الشخص) واللغات “الثانوية” (التي يتم تعلمها لغاية معينة مثل العمل أو الدراسة). الشخص الذي يتقن لغة واحدة بشكل كامل، ثم يتعلم لغة ثانية قد يتعلمها بشكل أقل إتقانًا في البداية ولكن مع الاستمرار في تعلمها يمكنه أن يصبح متمكنًا منها أيضًا.
تتعلم معظم الناس في العالم لغة واحدة “أساسية” منذ طفولتهم، بينما تبدأ اللغات الثانوية في الدخول إلى حياتهم من خلال التعليم الرسمي أو الحاجة المهنية. الفرق بين تعلم لغة أساسية ولغة ثانوية يكمن في مدى تعمق الفرد في تعلم اللغة وطول مدة ممارسة استخدامها.
أثر تعلم العديد من اللغات على الدماغ
يعتقد العلماء أن تعلم لغات متعددة له تأثيرات إيجابية على الدماغ. من الفوائد المعروفة لذلك:
-
تحسين الذاكرة: الشخص الذي يتعلم لغات متعددة يعزز من قدرته على التذكر واسترجاع المعلومات. الذاكرة تكون أكثر مرونة عند التعامل مع لغات متعددة.
-
تعزيز التفكير النقدي: تعلم اللغات يشجع على التفكير النقدي والتحليلي. يتعين على الشخص تعلم كيفية التبديل بين قواعد اللغة المختلفة، مما يحفز التفكير بشكل مرن.
-
تعزيز القدرة على التعلم: بمجرد أن يتعلم الشخص لغة جديدة، يصبح تعلم اللغات الأخرى أسهل. هذا يرجع إلى أن الدماغ يبدأ في تطوير “استراتيجيات” للتعامل مع المعلومات اللغوية، مما يساعد على إتقان لغات أخرى بسرعة أكبر.
متى يتوقف الإنسان عن تعلم اللغات؟
في الحقيقة، لا يوجد حد معين يمكن تحديده لعدد اللغات التي يمكن للإنسان تعلمها. ولكن مع تقدم العمر قد يبدأ الشخص في مواجهة تحديات في الحفاظ على إتقان عدة لغات. مع مرور الوقت، قد يصعب الحفاظ على الطلاقة في اللغات التي لا يتم استخدامها بانتظام، خاصة إذا كانت لغات قريبة من بعضها البعض.
أما إذا كان الشخص يخصص جزءًا من حياته لممارسة اللغات التي تعلمها، فإن قدرته على الحفاظ على تلك اللغات تبقى قائمة. ولكن في النهاية، النجاح في تعلم اللغات يعتمد على التفاني والوقت المبذول في الممارسة والتفاعل.
الأشخاص الذين يتقنون العديد من اللغات
هناك بعض الأشخاص الذين يعتبرون “مُلَاحِظِين” في تعلم اللغات. هؤلاء الأشخاص لا يتقنون لغتين أو ثلاث فقط، بل يمكنهم تعلم عدد كبير من اللغات بشكل احترافي. يُطلق على هؤلاء الأشخاص اسم “اللغويين المتعددي اللغات” (Polyglots). ومن بين أشهر هؤلاء الأشخاص:
-
زِيمُونَيْا بِن جَرِي: هو شخص يُقال إنه يتقن أكثر من 40 لغة. وقد أظهر دراسة عن كيفية تعلم اللغات التي يتقنها.
-
أوليفر سكس: عُرف بشغفه اللغوي، حيث تحدث عن حياته في تعلم اللغات.
إن القدرة على تعلم اللغات لا تعتمد فقط على الوقت والجهد المبذول، ولكن أيضًا على الطابع الشخصي، حيث يمتلك البعض الاستعداد الفطري لتعلم اللغات بشكل أسرع وأكثر كفاءة. كما أن الأشخاص الذين يخصصون حياتهم لمجال اللغات يمكنهم إتقان عدة لغات من خلال التدريب المستمر والتفاعل مع أشخاص يتحدثون هذه اللغات.
الختام
يمكن للإنسان تعلم العديد من اللغات، لكن العدد الذي يمكن تعلمه يختلف من شخص لآخر وفقًا لعدة عوامل. القدرة على تعلم اللغات ليست محدودة، بل يمكن تعزيزها من خلال المثابرة والممارسة المستمرة. في النهاية، تظل اللغة أداة أساسية لتوسيع آفاق الإنسان وزيادة فرصه في التعلم والتفاعل مع العالم.
